إن ما تعانيه غزة من حرب الاحتلال اليهودي الصهيوني عليها أثار انتفاضة عالمية مناصرة لها، وقد أدى هذا إلى تداعيات مشهودة في الغرب خصوصاً.
ما أحدثته غزة والانتفاضة العالمية في السلطات الحاكمة العالمية، والهيئات البرلمانية
- أيرلندا: في نوفمبر 2024م، أقرّ مجلس النواب اقتراحًا غير ملزِم ينصّ على ارتكاب إبادة جماعية في غزة، وبحلول يناير 2025م، انضمت أيرلندا رسميًا إلى قضية جنوب أفريقيا المتعلقة بالإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية نذكر منها على سبيل المثال: ليبيا، وموريتانيا، وناميبيا، وقرغيزستان، وجزر المالديف أصدرت بيانات شديدة اللهجة تُدين أفعال الكيان الصهيوني كإبادة جماعية وتدعو إلى تدخل دولي.
- كولومبيا: انضمت كطرف ثالث متدخل في قضية جنوب أفريقيا ضد الكيان الصهيوني أمام محكمة العدل الدولية، مُشيرةً إلى التزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.
- فريق لاهاي: إنه يضم جنوب أفريقيا، بوليفيا، كولومبيا، كوبا، هندوراس، ماليزيا، ناميبيا، السنغال، وهو مُشكَّل لدعم القانون الدولي، نسّق هذا الفريق تدابير مثل حظر الأسلحة، والقيود المالية على الكيانات الـمُستفيدة من الاحتلال الصهيوني.
- المملكة المتحدة: كجهة فاعلة إقليمية، استدعت السفير «الإسرائيلي» بشأن بناء المستوطنات في المنطقة «E1» بالضفة الغربية، واصفةً إياه بأنه انتهاك صارخ للقانون الدولي، وأكد رئيس الوزراء كير ستارمر مجدداً استعداده للاعتراف بفلسطين إذا لم تهدِّئ إسرائيل من التصعيد.
- فرنسا: كجهة فاعلة إقليمية، اقترحت تشكيل تحالف بتفويض من الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في غزة، وانتقدت احتمال إعادة احتلال الكيان الصهيوني لها، ووصفته بأنه كارثة غير مسبوقة.
- ألمانيا: كجهة فاعلة إقليمية، على الرغم من دعمها التاريخي القوي للكيان الصهيوني، أعلن مستشارها ميرز تعليق مبيعات الأسلحة، ورفض استقبال اللاجئين الفلسطينيين؛ ما يشير إلى موقف متردد.
- الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي: كجهة فاعلة إقليمية، في مؤتمر الأمم المتحدة، أعادت التأكيد على مبادرة السلام العربية، مع التركيز على إنهاء الاحتلال والمستوطنات غير القانونية وإرساء حل الدولتين وفقاً للقانون الدولي.
- ماليزيا: منعت السفن «الإسرائيلية» من الرسو، وأشارت إلى الاحتلال غير القانوني، والحصار المطول، كأسباب جذرية للصراع.
التوقعات المستقبلية لما ستحدثه أحداث غزة والانتفاضة العالمية
رأى المحللون الإستراتيجيون والمستقبليون أن هذه التداعيات يُتوقع لها أن تُشكل وجهاً جديداً للدول التي في قلب العالم العربي (ما يسمى بالشرق الأوسط)، وللنظام الدولي بأسره، طيلة جيل كامل.
أولاً: توقعات على المدى القصير (نهاية 2025م):
المقصود بالمدى القصير هو الأسابيع المقبلة والأشهر القادمة، إن شاء الله.
أ- مستقبل الأمم المتحدة والحوكمة العالمية: الجمعية العامة للأمم المتحدة (سبتمبر 2025م): توقع تصاعد النقاشات واقتراحات محتملة لصالح الاعتراف بفلسطين، أو فرض عقوبات، أو توسيع عمليات حفظ السلام.
ب- توقعات عن حفظ السلام والاستقرار: دعت فرنسا إلى نشر قوة حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة في غزة؛ وقد تحظى هذه المقترحات بتأييد واسع، وقد تُفعّل من خلال مجلس الأمن أو من خلال تحالفات أوسع.
ثانياً: توقعات على المدى المتوسط (2026-2028م):
أ- تغيير مؤسَّسيّ وهيكلي: قد تدفع أزمة غزة إلى دعوات لإصلاح الأمم المتحدة، لا سيما فيما يتعلق بحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن وفعاليته التشغيلية، وهو ما شكك فيه الأمين العام والدول الأعضاء الأخرى.
ب- سوابق قانونية ومساءلة: قد تُرسي الإجراءات الجارية أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية سوابق قانونية تتعلق بسلوك الدول أثناء الحروب غير المتكافئة والحصار، بناء على أحداث غزة.
وقد يصبح توسيع نطاق بناء التحالفات حول أدوات الضغط القانونية والاقتصادية، مثل حظر الأسلحة وتجميد الأصول، أدوات موحدة لإحداث تغيير سلوكي، على غرار نموذج مجموعة لاهاي.
جـ- ضغوط انتخابية ومحلية: في ديمقراطيات مثل النرويج، قد يضغط التدقيق العام والإعلامي على الحكومات نحو سياسات استثمار أجنبي أكثر أخلاقية؛ فعلى سبيل المثال، أثارت علاقات صندوق الثروة السيادية بشركات الأسلحة «الإسرائيلية» ردود فعلٍ سلبيةً شديدة.
د- نشاط شعبي ونشاط نجوم ومشاهير: من المرجح أن يُحافظ على الضغط، من خلال التعبئة العامة العالمية والأنشطة الرمزية، مثل: احتجاجات الحفلات الموسيقية، والأساطيل، والمقاطعات الثقافية.
وتؤدي المشاعر الاجتماعية دورًا حساسا في الحسابات الدبلوماسية، لا سيما في السياقات الغربية.
ثالثاً: توقعات على المدى الطويل (2029-…):
أ- حرب قانونية طويلة النفَس والمدى: يُتوقع أن ستستمر القضايا المعروضة على محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية لسنوات، وحتى إن لم تُسفر عن إدانات حاسمة، فإنها ستُشكل سحابة دائمة من الخطر القانوني على المسؤولين «الإسرائيليين»؛ ما يحدّ من سفرهم وانخراطهم الدبلوماسي.
وهذا سيُحفّز دولًا أخرى وجهاتٍ فاعلة من غير الدول على استخدام القانون الدولي كساحة معركة رئيسة؛ ما ينقل الصراع من المجال العسكري إلى المجال القضائي، ويمكننا توقع ارتفاعٍ في الدعاوى القضائية في المحاكم الوطنية بموجب “مبادئ الولاية القضائية العالمية”.
ب- تآكل القوة الناعمة الغربية: إنّ التفاوت الصارخ بين دعم الحكومات الغربية لـ«إسرائيل» وآراء مواطنيها وشعوب الجنوب العالمي أمرٌ مُؤذٍ لها؛ فقد صارت الحكومات الغربية اليوم متهمة داخلياً بازدواجية المعايير والكيل بمكيالين.
هذا ما من شأنه أن يُقوّض السلطة الأخلاقية الغربية للتحدث عن حقوق الإنسان في أوكرانيا وميانمار أو أي مكان آخر، ويُسرّع التحرك نحو عالم متعدد الأقطاب، حيث يُبحث فيه عن قيادة بديلة، من الصين أو القوى الإقليمية.
جـ- إعادة تعريف القضية الفلسطينية: لقد حطّمت الحرب على غزة نموذج التدافع الكامن القابل للإدارة؛ ذلك أن «حلّ الدولتين» الذي يُغذَّى بالفعل، أصبح الآن ميتًا سريريًا في المستقبل المنظور، بعد أن فقد مصداقيته بسبب توسّع المستوطنات وحجم الدمار في غزة.
ردّ الفعل العنيف أجبر العالم على حوار عالمي حول أطر جديدة، لكن ما زالت الدول الغربية تحلم بحل وسط يساوي بين الجلاد والضحية؛ إما دولة واحدة ثنائية القومية بحقوق متساوية، أو دولة فصل عنصري دائمة.
يكتسب التأطير الجنوب أفريقي للقضية زخمًا، مُحوّلًا النقاش من نقاش متعلق بالاحتلال والحدود إلى نقاش مرتبط بالحقوق الأساس وبالحيف المتمثل في عدم المساواة الـمُشرعن.
د- تطرف الشباب في نصرة غزة: في الغرب وفي العالم العربي، على السواء، نجح القائمون على التربية السياسية والتأطير الفكري في تسييس جيل من الشباب من خلال الصور اليومية عما يحدث في غزة، حيث إن تعاطف الشباب العميق مع معاناة الفلسطينيين، وغضبهم مما يرونه من تواطؤ حكوماتهم، يُمثل قوة سياسية ضاربة في المستقبل.
وهذا ما سيُعيد تشكيل السياسات الانتخابية، وما سيؤثر على نقاشات السياسة الخارجية لعقود مقبلة من الزمان، وقد يُغذي المزيد من الاستقطاب والاضطرابات الاجتماعية داخل المجتمعات الغربية على الخصوص.
هـ- تحالف جيوسياسي جديد: تُشكل الحرب عاملًا مُحفزًا إذ تُسرّع من تشكيل التكتلات.
فهناك من جهة، تحالف تقوده الولايات المتحدة يضم معظم دول أوروبا وبعض الحلفاء الإقليميين، ومن جهة أخرى، تحالف فضفاض ولكنه متنامٍ يضم روسيا والصين وإيران وأغلبية دول الجنوب العالمي وشبكة عالمية من النشطاء.
قد يرى المكتفون بالمظاهر أن هذا انقسام أيديولوجي على غرار الحرب الباردة، لكنه في حقيقته تحالف مُجزأ قائم على قضايا مُحددة، حيث تُواجه دول مثل الهند وتركيا منطقة وسطى مُعقدة، حيث إن حركة عدم الانحياز، التي طال انتظارها، تجد صوتًا وهدفًا جديدين في هذا الصراع.
أ.د. جمال بن عمار الأحمر