اقتضت حكمة الله تعالى أن ينزل البلاء بعباده المؤمنين لما للابتلاء من فوائد عديدة يوم القيامة، منها: رفعة منزلة المبتلين، وقربهم من رب العالمين، ومنع تكرار الابتلاء عليهم والتنعم بجنة الله عز وجل.
ولكي ينال المسلم هذا الفضل ينبغي له أن يستسلم لله عز وجل فيما نزل به من بلاء ولا يسخط، بل يقبل من الله عطاياه ولو كانت مخالفة لهواه.
ففي الابتلاء فوائد كثيرة في الآخرة، منها:
أولاً: الوصول للمنزلة التي أعدها الله للعبد المؤمن به في الجنة:
يسعى المؤمن بأعماله الصالحة أن يصل إلى مكانة عالية في الجنة، إلا أن فكره يراوده أنه لا يمكن أن يصل إلى مراده، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أرشد أتباعه إلى طرق الوصول إلى أعالي الجنان التي منها الصبر على البلاء في الدنيا، فعند أبي داود عن اللجلاج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا كانت له منزلة عند الله عز وجل لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده، أو في ماله، أو في ولده، ثم صبّره على ذلك حتى يبلغ هذه المنزلة».
ولعل ما حدث مع أبو قلابة خير دليل على ذلك؛ حيث روى عَبْداللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: خَرَجْتُ إِلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ فَإِذَا أَنَا بِبَطِيحَةٍ فِيهَا رجل قد ذهب يَدَاهُ وَرجلَاهُ وَثقل سَمعه وبصره وَمَا لَهُ من جارحة تَنْفَعهُ إِلَّا لِسَانه وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَوْزِعْنِي أَن أحمدك حمداً أكافئ بِهِ شُكْرَ نِعْمَتِكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ بِهَا عَلَيَّ وَفَضَّلْتَنِي على كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْتَ تَفْضِيلاً.
قَالَ عَبْدُاللَّهِ: قُلْتُ: وَاللَّهِ لآتِيَنَّ هَذَا الرَّجُلَ وَلأَسْأَلَنَّهُ أَنَّى لَهُ هَذَا الْكَلامُ؛ فَهْمٌ أم عِلْمٌ أم إِلْهَامٌ أُلْهِمَ؟ فَأَتَيْتُ الرَّجُلَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: سَمِعْتُكَ وَأَنْتَ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَوْزِعْنِي أَنْ أحمدك حمداً أكافئ بِهِ شُكْرَ نِعْمَتِكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ بِهَا عَلَيَّ وَفَضَّلْتَنِي على كَثِيرٍ من خَلَقْتَ تَفْضِيلاً، فَأَيُّ نِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْكَ تَحْمَدُهُ عَلَيْهَا وَأَيُّ فَضِيلَةٍ تَفَضَّلَ بِهَا عَلَيْكَ تَشْكُرُهُ عَلَيْهَا؟
قَالَ: وَمَا تَرَى مَا صَنَعَ رَبِّي وَاللَّهِ، لَوْ أَرْسَلَ السَّمَاءَ عَلَيَّ نَارًا فَأَحْرَقَتْنِي وَأَمَرَ الْبِحَارَ فَغَرَّقَتْنِي وَأَمَرَ الأَرْضَ فَبَلَعَتْنِي مَا ازْدَدْتُ لِرَبِّي إِلا شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ عَلَيَّ مِنْ لِسَانِي هَذَا، وَلَكِنْ يَا عَبْدَاللَّهِ إِذْ أَتَيْتَنِي لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ، كَانَ مَعِيَ بُنَيٌّ لِي يَتَعَاهَدُنِي فِي وَقت صَلَاتي فيوضيني وَإِذَا جُعْتُ أَطْعَمَنِي وَلَقَدْ فَقَدْتُهُ مُنْذُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فَتَحَسَّسْهُ لِي رَحِمَكَ اللَّهُ.
فَمَضَيْتُ فِي طَلَبِ الْغُلامِ فَمَا مَضَيْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ فَإِذَا أَنَا بِالْغُلامِ قَدِ افْتَرَسَهُ سَبُعٌ فَاسْتَرْجَعْتُ، قُلْتُ لَهُ: إِنَّ الْغُلامَ الَّذِي أَرْسَلْتَنِي فِي طَلَبِهِ افْتَرَسَهُ سَبُعٌ فَأَعْظَمَ اللَّهُ لَكَ الأَجْرَ وَأَلْهَمَكَ الصَّبْرَ، فَقَالَ الْمُبْتَلَى: الْحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ اسْتَرْجَعَ وَشَهَقَ شَهْقَةً فَمَاتَ، فَقُلْتُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
فَبَيْنَمَا أَنَا قَاعِدٌ إِذْ تَهَجَّمَ عَلَيَّ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ فَقَالُوا لِي: اكْشِفْ لَنَا عَنْ وَجْهِهِ فَعَسَى أَنْ نَعْرِفَهُ، فَكَشَفْتُ عَنْ وَجْهِهِ فَانْكَبَّ الْقَوْمُ عَلَيْهِ يُقَبِّلُونَ عَيْنَيْهِ مَرَّةً وَيَدَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُونَ: هَذَا أَبُو قِلابَةَ صَاحب ابن عَبَّاسٍ، لَقَدْ كَانَ شَدِيدَ الْحُبِّ لِلَّهِ وَلِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَغَسَّلْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ وَصَلَّيْنَا عَلَيْهِ وَدَفَنَّاهُ، فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ رَأَيْتُهُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ فَقُلْتُ: أَلَسْتَ بِصَاحِبِي؟! قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَنَّى لَكَ هَذَا؟ قَالَ: إِنَّ للَّهِ دَرَجَاتٍ لَا تُنَالُ إِلا بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلاءِ وَالشُّكْرِ عِنْدَ الرَّخَاءِ مَعَ خَشْيَةِ اللَّهِ عز وجل فِي السِّرِّ وَالْعَلانِيَةِ(1).
ثانياً: النجاة من معاودة العقوبة يوم القيامة:
إذا ابتلى الله تعالى عبده في الدنيا بسبب خطاياه التي ارتكبها فإنه لن يعاقبه عليها في الآخرة، فقد يُعاقب شخص في الدنيا من خلال القانون أو غيره على معصية ارتكبها فلا تكرار للعقاب يوم القيامة.
فعند ابن ماجة عن على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أصاب في الدنيا ذنباً عوقب به، فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده، ومن أذنب ذنباً في الدنيا، فستره الله عليه، فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه».
وعند مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هل كنت تدعو بشيء أو تسأله إياه؟»، قال: نعم: كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله! لا تطيقه أو لا تستطيعه، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار»، قال: فدعا الله له فشفاه.
ثالثاً: دخول الجنة بلا حساب ولا عذاب:
يتحمل أهل البلاء أقدار الله النازلة عليهم وربما طال البلاء بهم فيبتعد أهل العافية عنهم، فأراد الله التميز لأهل البلاء يوم القيامة ليكون الله تعالى أقرب إليهم، فقد روى الطبراني عن علي بن الحسين قال: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقم أهل الصبر، فيقوم ناس من الناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة، فتتلقاهم الملائكة فيقولون لهم: قبل الحساب؟ قالوا: نعم، قالوا: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر، قالوا: فما كان صبركم؟ قالوا: صبّرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبّرناها عن معصية الله، وصبّرناها على البلاء، فقالوا لهم: ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين».
وعند مسلم عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «يؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا، من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله! يا رب! ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط».
رابعاً: بيان سعة رحمة الله لأهل البلاء يوم القيامة:
تتسع رحمات يوم القيامة لمن رضوا بعطايا الله لهم في دنياهم وإن كانت مخالفة لمرادهم، فعند الإمام الحاكم عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: «إذا ابتليت عبدي ببلاء فصبر، ولم يشكني إلى أحد من عواده، أبدلته لحماً خيراً من لحمه ودماً خيراً من دمه، فإذا أبرأته أبرأته ولا ذنب له وإن توفيته فإلى رحمتي»، وعند ابن عدي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: إذا وجهت لعبد من عبيدي مصيبة في بدنه أو ماله أو ولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصب له ميزاناً أو أنشر له ديواناً».
خامساً: كثرة الأجر والثواب يوم القيامة:
يسعد المؤمن إذا حل به ابتلاء من الله تعالى لأن الله عز وجل يعد بالبلاء مكاناً في الجنة له، ويجري الأجر والثواب عليه، فعند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يود ناس -من أهل العافية- لو أن جلودهم تقرض بالمقاريض في الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء يوم القيامة»، وعند البزار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عجبت للمؤمن من حزنه على السقم ولو يعلم ما له في السقم لأحب أن يكون سقيماً حتى يلقاه الله».
فعلى المسلم إذا تعرض لبلاء أن يروّض نفسه على الاستجابة لله تعالى بالصبر على البلاء، وأن ينظر إلى عواقب فعله الخيّر عند ربه الذي وعد عليه أولياءه بالمنزلة العالية في الجنة، والتميز من قبل الله لهم، وإدخالهم جنته بغير حساب، وشمولهم برحمته وعظيم أجره سبحانه وتعالى لهم.
د. محمد علي سيد أحمد