منذ أكثر من عامين، يعيش قطاع غزة تحت وطأة حرب إبادة ممنهجة، جمعت بين القصف الشامل والحصار الخانق وسياسة التجويع المبرمجة، وفي ظل هذا الواقع الدموي، يطرح السؤال الأكبر نفسه: كيف سيكون «اليوم التالي» للحرب؟
هذا السؤال لا يخص الجانب الإنساني أو العمراني فحسب، بل يمتد إلى العمق السياسي والعسكري، حيث تتصارع إرادات الاحتلال والمقاومة على تحديد شكل المرحلة المقبلة، فبينما يلوّح قادة الاحتلال بخيار «الاحتلال الكامل»، تدرك المقاومة أن هذه المرحلة هي امتداد للصراع وليست نهايته، وأن معركة البقاء والسيادة لا تقل ضراوة عن معركة الصمود في الميدان.
قراءة في التهديدات «الإسرائيلية» وخيارات الاحتلال
منذ توقف المفاوضات التي كانت قريبة من الإعلان في الدوحة في يوليو 2025م، عادت حكومة الاحتلال إلى رفع سقف تهديداتها، وعلى رأسها التلويح باحتلال كامل لقطاع غزة.
ورغم أن هذه التصريحات تلقى صدى في الإعلام العبري، فإن دوائر صنع القرار «الإسرائيلية» والعسكرية تدرك أن هذا السيناريو محفوف بالأخطار، فالاحتلال الكامل يعني الدخول في مستنقع دموي طويل الأمد، وسط بيئة سكانية مقاومة، وتجربة تاريخية مريرة من الانتفاضات والمعارك السابقة.
القيود أمام هذا الخيار متعددة، منها: الكلفة البشرية الكبيرة، والإنهاك العسكري، وغياب خطة واضحة لإدارة القطاع في «اليوم التالي»، والضغط الدولي الذي يتزايد مع تراكم الأدلة على الجرائم وعمليات الإبادة الجماعية، حتى داخل الكيان، هناك أصوات من قادة أمنيين وعسكريين تحذر من أن الدخول في قلب غزة لن يجلب إلا خسائر سياسية وعسكرية، وسيمنح المقاومة فرصة لإيقاع أكبر قدر من الخسائر في صفوف الجيش.
مواقف المقاومة وثوابتها في مرحلة ما بعد الحرب
تعامل المقاومة الفلسطينية ملف «اليوم التالي» باعتباره جزءاً من دور المقاومة وتاريخها، لا مرحلة منفصلة عنها، فثوابتها واضحة وغير قابلة للتفاوض، وهي: وقف شامل للعدوان، وانسحاب الاحتلال، وفك الحصار كلياً، وضمانات حقيقية تمنع تكرار العدوان.
وترفض المقاومة أي صيغة دولية أو إقليمية تمنح الاحتلال وصاية على غزة، سواء عبر إدارة أمنية مشتركة أو دولية، أو عبر إدخال قوات عربية بمهام أمنية، كما تعتبر أن سلاح المقاومة هو الضمانة الأساسية لردع الاحتلال، وهو خط أحمر لن تسمح المساس به؛ لأنه أثبت نجاعته في الصمود لعامين متواصلين أمام أعتى آلة عسكرية.
المقاومة تدرك أن الاحتلال يسعى لفرض وقائع جديدة عبر التهجير، لكن خبرتها في إفشال خطط مثل «عربات جدعون» وخطط الجنرالات السابقة تمنحها ثقة أكبر في مواجهة أي محاولة لإعادة احتلال القطاع.
سيناريوهات محتملة للتعامل مع المرحلة المقبلة
من خلال قراءة الواقع الميداني والسياسي، هناك ثلاثة سيناريوهات رئيسة، هي:
– تصعيد بري محدود: أن يلجأ الاحتلال إلى عمليات تدمير واسعة في مناطق مختارة –كما حدث في رفح وخان يونس– بهدف خلق صورة إنجاز ميداني يستخدمها لتحسين شروط التفاوض.
– استمرار الضغط حتى حافة الهاوية: وهو الأسلوب الأمريكي المفضل، بإبقاء الحرب مفتوحة لاستنزاف المقاومة، مع استخدام ورقة المساعدات والملفات الإنسانية كأدوات ابتزاز سياسي.
– العودة إلى المفاوضات: وهذا سيناريو وارد، سواء لصفقة جزئية تشمل الأسرى أو لوقف إطلاق نار مؤقت، بانتظار ظروف أكثر ملاءمة لصفقة شاملة.
المقاومة من جهتها قد تتعاطى مع هذا السيناريو بما يخدم أهدافها ويحافظ على ثوابتها، خصوصاً إذا كان يضمن تحسين الوضع الإنساني ويوقف العدوان.
معركة إعادة الإعمار والسيادة الوطنية
في نظر المقاومة، إعادة الإعمار ليست مجرد عملية هندسية لإعادة بناء البيوت، بل هي معركة سيادة بامتياز، فهي ترفض ربط إعادة الإعمار بأي شروط سياسية أو أمنية، أو جعله ورقة مساومة في يد الاحتلال أو المانحين، والأولويات التي تحددها المقاومة تبدأ بعودة السكان إلى مناطقهم، وتأمين السكن والخدمات الأساسية، وإعادة تأهيل المستشفيات والمدارس، وتوفير مقومات الحياة الكريمة.
إن ملامح «اليوم التالي» في غزة لن تُرسم على طاولة المفاوضات فقط، بل ستُحسم على أرض الواقع عبر موازين القوة والقدرة على فرض الشروط، والمقاومة التي صمدت في وجه آلة الحرب «الإسرائيلية»، تراهن على أن قدرتها على إفشال خطط الاحتلال ستستمر في مرحلة ما بعد الحرب، عبر تثبيت السكان، وإعادة بناء القطاع بكرامة، والحفاظ على سلاحها كضمانة ردع.. وفي المقابل، فإن أي محاولة «إسرائيلية» لفرض وصاية أو إدارة قسرية للقطاع، ستعيد إشعال المواجهة وتطيل أمد الصراع.
ومع تعاظم الضغط الدولي وارتفاع كلفة الاحتلال، تبدو فرص المقاومة في الحفاظ على مكتسباتها وتعزيز حضورها السياسي والشعبي أكبر من أي وقت مضى، لتبقى غزة عنواناً للسيادة والكرامة في الوعي الفلسطيني والعربي.
إياد القرا