على الرغم من مرور الأزمان السحيقة على الجريمة البشرية الشنعاء «وأد البنات»، تلك التي كان تدفن فيها البنات وهنّ يلتقطن أنفاسهن بين ذرات التراب، لا لجريمة أقمنها، أو لذنب اقترفنه، بل لعار توهمه أهلن افتراءً وادعاءً عليهن، فإن التاريخ أبى أن يترك هذه الجريمة في مهملاته؛ فقرر إحياءها مرة أخرى بين سطوره، لكن هذه المرة بثوب مختلف، ومجرم محترف، تمكن من حشد الإمكانات العسكرية، والطاقات البشرية، والأسلحة النووية، والتقدمات التكنولوجية، مرتديًا ثوب الدموية واللاحمة، لا يشبع جوفه صرخات البنات الأبرياء، ولا أنين الأطفال الرضع، فأراد وأد رقعة جغرافية بأكملها؛ بإنسها، ومسكنها، وأرضها، وكل من دب عليها، وإن استطاع الوصول لسمائها ما كان ليعتقها، إنه الكيان الصهيوني الغاصب، الذي يئد غزة تحت الركام، تلك الرقعة الجغرافية التي دبت عليها أقدام الأنبياء، قبلة المسلمين الأولى، وموطن الرسالات السماوية.
غزة تحت الركام.. كيف وأدها الاحتلال؟
منذ 7 أكتوبر والاحتلال لم يتوقف لحظة واحدة عن هدم المنشآت والمنازل على رؤوس ساكنيها؛ آلاف المنازل، وملايين الحجارة تنهار على رؤوس سكان غزة، ليدفنوا أحياءً تحت ركامها، منهم من يلتقط أنفاسه ويقاوم ظلمة المشهد، وظلم العدو، وصمت الأمة حتى يخرجه رجال الإنقاذ، أو الذين نجوا من القصف، ومنهم من يعتصر قلبه ألمًا وحزنًا على خذلان إخوانه، وثقلت فوق رأسه الحجارة، وصرخ ألف صرخة لكن لا أذن تسمع، ولا أحد يجيب، فاستمر في معركته تحت الركام ساعات، وربما أياماً، حتى استشهد بلا ضجة، أو جنازة، كما عاش بلا سند أو عصبة، معركة تلو أخرى؛ برًا، وجوًا، وبحرًا، وركامًا، يلاحقهم الموت تارة، ويلاحقونه مرات.
وأد غزة تحت الركام أشد جرمًا من وأد البنات
دائمًا ما يخبرنا التاريخ أن الادعاءات هي درع العدو المخروق، هذا الدرع الذي يتستر وراءه عقب كل جريمة، ففي الجاهلية ادعوا أن البنات عار لا بد أن يقتل في مهده قبل أن يدنس القبيلة، أو يسقط هيبتها، فدفنوا بناتهم بعد أن دفنوا ضمائرهم، وغيّبوا عقولهم، وحديثًا ادعى الكيان أن غزة ما هي إلى حصن للإرهاب والمسلحين، فبات يضرب في كل فج، هادمًا كل حائط، قاصفًا كل مبنى، وكأنه أخذ على نفسه عهداً ألا يترك حجارة فوق أختها، وأن يتفنن في إبادة غزة، وكأنه ادخر رصاصته لشيء آخر غيرها، وأخذ يبحث عن الحجارة التي يضرب بها مائة عصفور دفعة واحدة، فما كان منه إلا أن يقصف بصاروخ واحد عشارات المنازل، ليئد غزة تحت الركام!
غزة تحت الركام أشد جرمًا من وأد البنات؛ لأن المسلمين الآن كثر، ورسالة الإسلام باتت واضحة جلية للعجم قبل العرب؛ «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا»، وأد البنات كان لجنس واحد، أما غزة فيتم وأد أطفالها ذكورًا وإناثًا، ويدفن رجالها ونساؤها أحياءً وأمواتًا، ويقتل صغارها وشيوخها ليلًا ونهارًا، وإن كان البنات في الجاهلية وضعن في قبورهن وهن يتنفسن، فلربما كانت بطونهن مشبعة بالطعام، أما بطون من يتم وأده اليوم في غزة فإنها خاوية.
غزة تحت الركام.. من ينقذها؟
كل يوم -وربما كل ساعة- ينتشل أهل غزة عشرات الضحايا من تحت الحجارة التي لم تسلم هي الأخرى من دنس الكيان ونجاسته، منهم من تشوهت ملامحه، ومنهم ما زال يقاوم لالتقاط أنفاسه، ومنهم من تحول إلى هيكل عظمي -كهؤلاء الذين يحسبون على الحياة اليوم نتيجة التجويع- ومنهم من لم يبقَ من أثره سوى ملبسه وأغراضه.
جميعهم يصرخ ويستجير بأمة صامتة علها تجير أو تستفيق، صرخات متتالية من الركام والأنقاض، مرورًا بالدبابات والقذائف، متجاوزة الطائرات والصواريخ، مودعة «الأقصى»، عابرة الألغام والحدود والأسلاك الشائكة، وصولًا إلى مسامع الضمير الإنساني، وقلب العالم العربي.
غزة تستجير فهل من مجير؟ غزة تحت الركام فهل من منقذ؟
اعلموا أن غزة ستسأل؛ بأي ذنب قتلت؟ فأعدوا للسؤال جوابًا.