في ذكرى مولد خير الأنام محمد صلى الله عليه وسلم يعود العالم كل عام ليستحضر ميلاد النور الذي بدد ظلمات الجاهلية، وأنار للإنسانية طريق الرحمة والعدل، فلم يكن مولده حدثاً عابراً في تاريخ البشر، بل كان بداية فصل جديد من فصول الحضارة الإنسانية، حيث اجتمع في شخصه الكريم النبي المربي، والمعلم، والقائد، والزوج، والجار، والإنسان الذي جسد القيم العليا قولاً وعملاً.
هذه السلسلة من المقالات محاولة للاقتراب من جوانب متعددة في حياته صلى الله عليه وسلم، فنقرأ محطات سيرته العطرة، ونستلهم القيم الإنسانية التي بثها في الناس، ونقف عند علاقته بأسرته ومجتمعه، ثم نتأمل أثره الباقي في التاريخ والواقع.
ولسنا هنا بصدد سرد تاريخي مجرد، ولا احتفال شكلي ينتهي بانتهاء المناسبة، بل دعوة صادقة لإحياء القدوة النبوية في حياتنا اليومية، وإعادة اكتشاف أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس مجرد ذكرى، بل رسالة حية تتجدد مع كل جيل.
ميلاد يبدد الظلام
لقد كان الوصف الدقيق للعالم وقت ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم أنه عالم مظلم يحكمه الظلم والظالمون، وكانت هناك أمة في قلب الصحراء بغير حضارة، حيث إنه لم توجد سوى حضارتين في ذلك الزمان؛ هما الفرس والروم، وأما العرب فقد اعتمدت حياتهم على البداوة والتجارة والحروب العميقة وكان السادة يملكون العبيد ليقهروهم ويعاملوهم كالأنعام فلا حقوق لهم ولا رحمة.
وبالرغم من بقايا حنيفية إبراهيمية عند بعض القبائل العربية وقد تركت فيها محاسن الأخلاق مثل الكرم والنخوة والفزعة للغريب، فإن الظلم كان سيد الموقف بالنسبة للفقراء والطبقات الدنيا في المجتمعات الجاهلية.
ووسط تلك الجاهلية المظلمة، كان مولد النبي صلى الله عليه وسلم نوراً يضيء عتمة حياة البسطاء، فيقول تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (آل عمران: 164)، وبهذا النور، تبدلت أمة رعاة الغنم لتتلاشى الفروق بين الطبقات، ويتآخى المؤمنون فقيرهم وغنيهم، ضعيفهم وقويهم، ليصيروا جميعاً حاملين مشاعل التغيير والنهوض للبشرية كلها، محررين العبيد، ورافعين شأن العدالة والرحمة.
ولم يكن مولد النبي صلى الله عليه وسلم هداية للعرب وحدهم، وإنما هداية للبشرية كلها، فمن ظلام الجهل، لنور العلم، ومن نير العبودية، لنور الحرية من الرق والإذعان لغير الله، وبعد التنازع والفرقة إلى نور الأخوة والتكافل، ومن أمة الفرقة والتحارب، لخير أمة أخرجت للناس، يقول تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل عمران: 110).
مولد النبي يتيماً
وقد كان ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم تحت ظلال اليتم لحِكَم يعلمها الله عز وجل، لكنها من أهم مقومات شخصيته التي تعرضت كثيراً للمعاناة الإنسانية طويلاً، حيث زكت فيه ملكة الشفقة بالمستضعفين والعطف على المساكين واليتامى، وليكن رحمة مهداة للبشرية؛ يقول تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107).
الخلق العظيم
وتشاء إرادة الله عز وجل أن يشهد لنبيه بحسن الخلق كل من عرفه قبل الرسالة، فلم يكن شخصاً مجهولاً، ولم يكن تاريخه غامضاً، بل كانت حياته صفحة بيضاء شهدها معظم أهل مكة ليُعرف بـ«الصادق الأمين»، يصفه الله تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4)، وشهدت له خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها حين أتاه الوحي قائلة: «كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق» (رواه مسلم).
وقيمة الخلق أنه مرئي، ليس كالعقيدة لا يستطيع أحد الحكم عليها أو قياسها، لكن الأخلاق هي أبرز ما يراه الخلق ويستطيعون الحكم عليها، ولذلك يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم على حسن الخلق فيقول: «ليس المؤمن بالطَّعَّان ولا اللَّعَّان ولا الفاحش ولا البذيء» (واه الترمذي)، وهو عبادة يؤجر عليها المسلم فيقول صلى الله عليه وسلم: «إن من أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن من أبغضكم إليَّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون..) (رواه الترمذي).
وفي سن الأربعين حكمة أخرى
وكانت البعثة النبوية في الأربعين من عمره صلى الله عليه وسلم حيث اكتمال الحكمة عند الرجال، وقد جاءه الوحي وهو يتعبد في غار حراء، يتعبد ويتفكر ويتأمل حركات الشمس والقمر والنجوم، يراقب الكون من حوله، يتابع ذهاب الليل وإقبال النهار؛ ليرى بعين أخرى غير أعين الناس، وأن تلك الحركة كلها لا يمكن أن تكون صناعة تلك الأصنام التي يتبعدون لها أسفل وادي مكة؛ ليأتيه الجواب بعد تساؤلات عديدة: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق)، ثم جاءه التكليف بالتبليغ، قال تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) (الشعراء: 214)، وقال تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (الحجر: 94).
فمنه تتعلم الأمة التضحية والثبات على المبدأ حين يكون التكليف من رب العالمين، وحين تكون الرسالة من السماء مع استحضار قول رب العالمين: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) (الأحقاف: 35)، كما صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أظهر الله رسالته وعلت راية دعوته.
ميلاد جديد للبشرية
ولم يكن ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم مجرد ميلاد إنسان صالح، إنما كان ميلاداً أنقذ البشرية من عملية فناء حتمي كانت ستتعرض لها نتيجة الحروب المتواصلة، التي لا يحكمها خلق أو مرجعية سماوية، فقد كانت الطبقة الفقيرة تحت قيد العبودية، وكانت المرأة معرضة للسبي مهما بلغت مكانتها الاجتماعية طالما تعرضت قبيلتها أو مدينتها أو قريتها للقتال والهزيمة.
يقول د. السيد عمر، أستاذ النظرية الإسلامية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة: «لقد كان للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثة ميلادات ضمنت للبشرية الاستمرار والسعادة حتى يأذن الله عز وجل للحياة أن تنتهي وتحين ساعة الحساب:
الميلاد الأول: يوم ولدته أمه السيدة آمنة بعدما مات أبوه ولم يره.
الميلاد الثاني: حين بلغ بالرسالة، وتحمل التكليف بالتبليغ لدين الله.
الميلاد الثالث: كان يوم موقعة «أُحد» حين نزل قول الله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) (آل عمران: 144)؛ وتنزلت هذه الآية بعد تفرق المسلمين في المعركة وهروب الأكثرية منهم حين أشيع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات في المعركة، فتفرق الناس ومنهم من هرب إلى المدينة، إلا القلة القليلة التي ثبتت ونادوا أن موتوا على ما مات عليه نبيكم، هنا تحول النبي الإنسان محمد بن عبدالله، إلى فكرة ورسالة، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنسان يحيا ويموت، لكنه تحول إلى فكرة غير قابلة للموت، فكرة باقية خالدة بخلود الحياة على الأرض، فكان ميلاداً ثالثاً وتخليداً للرسالة التي يحملها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، لا تنتهي بنهايته، ولا تموت بموته».
إن ذكرى المولد النبوي الشريف ليست فرصة لتذكر سيرته وحسب، وإنما هي فرصة لتجلية القلوب والعودة لرسالته صلى الله عليه وسلم التي جمعت بين أخلاق وقيم لم تجتمع إلا في ظل الإسلام كالرحمة والعدل، والإيمان والعمل، والنخوة والشجاعة، وقد ثقلت الأمة بالهزائم والإخفاقات وآن الأوان أن تنهض من كبوتها التي طالت، فإلى طريق النبوة للنظر كيف كان.