في زمن تتكالب فيه قوى الباطل على جسد الأمة، وتُحاك المؤامرات في الليل والنهار لتمزيق صفوفها وتشويه هويتها، لا يملك المسلمون ترف الانقسام ولا فسحة الاختلاف الممزق، بل يصبح الاتحاد فريضة شرعية، وضرورة إستراتيجية، وواجبًا إنسانيًا لا بديل عنه، وإن وحدة الصف ليست مجرد شعار يُرفع، وإنما هي أمرٌ إلهي ووصية نبوية، وسرّ النصر الذي قامت عليه حضارة الإسلام عبر القرون.
وفيما يلي 7 أسباب جوهرية تجعل من الاتحاد في مواجهة العدو المشترك فريضة الوقت:
1- أمر الله تعالى بالاعتصام وعدم التفرق:
قال الله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: 103)؛ هذه الآية الكريمة جاءت بصيغة الأمر المؤكد، لتجمع بين فرضية الاعتصام بحبل الله (وهو دينه وكتابه وسُنة نبيه)، والتحذير من آفة التفرق التي تُضعف الأمة، ولأن التنازع سبب مباشر للانهيار، أكمل الله التحذير بقوله: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال: 46).
لقد شهد التاريخ الإسلامي أبهى صفحاته حين كانت الأمة متحدة، كما في عهد الخلفاء الراشدين، حين انطلقت جيوش الإسلام من المدينة المنورة لتبلغ الآفاق، فلم تكن كثرتهم هي السبب، بل كانت وحدتهم على كلمة الحق، فهابهم العدو من مسافة أميال.
2- الاتحاد مصدر قوة وهيبة للأمة:
القوة لا تأتي من مجرد العَدد والعُدد، بل من وحدة الهدف والصف، وقد شبَّه النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين في تماسكهم بـ«البنيان يشد بعضه بعضًا» (رواه البخاري، ومسلم)، وهو تصوير بليغ لضرورة التماسك.
إن الأمم الأخرى تدرك هذه الحقيقة، فتجتمع على مصالحها رغم اختلافاتها الداخلية، بينما يُخطئ بعض المسلمين حين يظن أن الاختلافات الجزئية تُبرر الانقسام، ولو تدبروا قول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف: 4)، لعلموا أن القوة في تماسك الصف، لا في تشتته.
ويروي التاريخ أن المسلمين يوم اليرموك، رغم قلة عددهم مقارنة بجحافل الروم، نصرهم الله لأنهم كانوا صفًّا واحدًا، كل واحد منهم يسند الآخر، فكأنهم جسد واحد أمام عدوهم.
3- صف واحد في وجه العدو يقطع طريقه:
العدو لا يجرؤ على مواجهة أمة موحدة، لكنه يفرح بالانقسام لأنه يفتح له أبوابًا للسيطرة، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الثغرة بقوله: «إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية» (رواه أبو داود، والترمذي)؛ فهذا التشبيه النبوي البديع يختصر درسًا عسكريًا وإستراتيجيًا عميقًا؛ فالغنم التي تنفصل عن القطيع تُصبح هدفًا سهلًا للذئب، وكذلك الأمة إذا تفرقت، أصبحت كل طائفة فريسة منفردة لأعدائها.
وقد شهدنا في التاريخ الحديث أن كل قُطر إسلامي تُرك يواجه مصيره منفردًا، كان أكثر عرضة للاحتلال أو الإبادة، بينما إذا اجتمعت الجهود، فُرض على العدو التراجع أو التفاوض بشروط الأمة.
4- حفظ دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم:
إن نصرة المسلم لأخيه المسلم واجب شرعي، وتركه للتنكيل والعدوان إثم عظيم، قال صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقِره» (رواه مسلم)، وهذه الأخوة تفرض على الأمة أن تتكاتف إذا اعتُدي على أي جزء منها، لأن دم المسلم أغلى من الدنيا وما فيها.
قال تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) (النساء: 93)، فإذا كان القاتل آثمًا إثماً عظيمًا، فإن الساكت عن نصرة المظلوم شريك في الإثم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من أصبح ولم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم» (رواه الطبراني).
والتاريخ يشهد أن أعظم الكوارث التي لحقت بالأمة كانت حين تُركت بعض أطرافها تواجه العدوان منفردة، كما حدث في الأندلس حين سقطت المدن واحدة تلو الأخرى بسبب غياب الدعم الفعّال من سائر بلاد المسلمين.
5- الاتحاد وسيلة لتحقيق مقاصد الشريعة الكبرى:
الشريعة الإسلامية جاءت لحفظ خمسة مقاصد كبرى، هي: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال، وهذه المقاصد تنهار إذا تفرقت الأمة وتنازعت؛ قال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) (المائدة: 2)؛ والتعاون على البر يشمل التعاون على حفظ الأمة وصون كيانها، وقد أجمعت كتب السياسة الشرعية على أن إقامة شوكة الأمة ومنع المعتدي عنها فرض على الجميع، كلٌ بقدر استطاعته.
في المقابل، فإن ترك هذا الواجب هو إعانة للعدو على الظلم، وهو ما حرمه الله في نصوص قطعية.
6- تماسك الصف شرط للنصر والتمكين:
النصر ليس مجرد وعد سماوي بلا شروط، بل هو مرتبط بأسباب مادية ومعنوية، يأتي على رأسها تماسك الصف، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) (الصف: 4)، فالله تعالى قد قرن محبته ونصره بالقتال المنظم والمتماسك.
وعندما كان المسلمون في غزوة «بدر» على قلب رجل واحد، نصرهم الله رغم قلة عددهم وضعف تجهيزهم، بينما في «أُحد»، حين دب الخلاف بين بعض الرماة، كان ذلك سببًا في انتكاسة المعركة، فالوحدة ليست مجرد فضيلة أخلاقية، وإنما شرط إستراتيجي للنصر.
7- الوحدة ضرورة في زمن التحالفات العالمية:
العالم اليوم لا يرحم الضعفاء، والتحالفات الكبرى تحكم المشهد السياسي والاقتصادي والعسكري، فلا مكان للكيانات الممزقة، قال تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92).
هذه الآية تضع الأساس العقدي للوحدة، فالأمة واحدة بربها ورسالتها وكتابها، وإذا فرقتها الحدود السياسية أو العصبيات القومية، فهي تخالف أصل تكوينها، والتاريخ أثبت أن كل أمة فرّطت في وحدتها أصبحت تابعة لغيرها، ولا تملك قرارها.
إن وحدة المسلمين أمام العدو المشترك ليست مجرد حلم عابر، بل هي فريضة قرآنية وضرورة واقعية، وهي الضمانة الوحيدة لبقاء الأمة قادرة على حماية دينها ودنياها، ولن يتحقق هذا الهدف إلا إذا أدرك كل مسلم أن مكانه في الصف واجب، وأن تخلفه يفتح ثغرة ينفذ منها العدو.
فلنجعل من هذه الوحدة ميثاق عهد بيننا، نُورثه لأجيالنا القادمة، ليحملوا راية الإسلام عالية، أمة قوية منيعة، شاهدة على الناس، تحقق وعد الله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) (النور: 55).