يتبادر إلى أذهان الكثير من المسلمين سؤال مهم: هل الأفضل أن أكون صالحاً أم مصلحاً؟
ولعل الرد الإلهي يجيب عن ذلك التساؤل في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) (هود: 117)؛ وقد جاء تفسير الآية في التفسير الميسر: وما كان ربك -أيها الرسول- ليهلك قرية من القرى وأهلها مصلحون في الأرض، مجتنبون للفساد والظلم، وإنما يهلكهم بسبب ظلمهم وفسادهم.
لذا، فدور المسلم لا يقتصر على إصلاح نفسه فحسب ليكون صالحاً، بل يتخطى ذلك ليكون صالحاً مصلحاً؛ أي أن رحلته في الصلاح تتضمن سعيه الدؤوب لإصلاح المجتمع من حوله.
والمؤكد أن المجتمعات الإسلامية على مدار تاريخها تمر بفترات عصيبة، تختلط فيها الحقائق وتكثر الفتن، وتشتد الحاجة للمصلحين الذين يحاولون درء الفتن وتوجيه الجموع للصواب، إيماناً بعظم الرسالة التي يحملون، وأهمية دورهم في حماية المجتمع بأكمله من الانجراف في مستنقع الفتن والمفاسد، والحفاظ على الثوابت والقيم والأخلاق.
وهنا يبرز السؤال: كيف يمكن للمسلم أن يكون صالحاً مصلحاً في مجتمعه في زمن الفتن؟
كيف تكون صالحاً مصلحاً؟
إن الإسلام هو الدين الخاتم لجميع الشرائع والأديان، ولذا فقد جاء للبشر جميعاً وليس لأمة بعينها، ومن هنا فإن دور المسلم لا يقتصر على إصلاح نفسه بل يتسع ليكون صالحاً مصلحاً يحمل الخير للبشرية جمعاء، وهذا يستلزم أن يتحلى بالكثير من الصفات التي تؤهله لذلك، ومنها:
– صالح في نفسه: لا يصح أن ينصح المسلم بسلوك ويأتي بنقيضه، فهذا يفقده المصداقية، ولكن واجبه أن يقدم القدوة الحسنة لمن يتعامل معهم، وأن يكون سليم العقيدة، مخلصاً لله، محباً لمجتمعه، حتى يكون عمله مطابقاً لقوله، امتثالاً لقول الله عز وجل: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ) (البقرة: 44).
وبعد ذلك ينطلق في رحلة الإصلاح لكل اعوجاج يراه في المجتمع، مقدماً نفسه كقدوة لغيره، ساعياً لتقويم ما يراه من أخطاء تخالف قيم ومبادئ مجتمعاتنا الإسلامية.
فعَّال ومؤثر
من يسعى للإصلاح هو شخص إيجابي وفعال؛ لأنه يجتهد لإصلاح ما يعتري مجتمعه من خلل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (رواه مسلم).
فالمسلم إيجابي بطبعه يحق الحق ويبطل الباطل ويسعى للإصلاح كلما رأى عواراً في مجتمعه، وتندرج طرق الإصلاح تبعاً لقدرات المصلح وإمكاناته بداية من الإصلاح باليد، ثم الكلمة ثم القلب وذلك أضعف الإيمان.
كما أنه مؤثر في المجتمع يمتلك الحجة القوية والقدرة على الإقناع والتأثير، ويبتعد عن مواطن الفتن والشبهات، فهو منضبط ومحايد في كل أحواله.
صاحب علم وحكمة
إن المصلح المؤثر يجب أن يمتلك العلم الذي يؤهله للإصلاح، ويمتلك الحكمة التي تعينه على مواجهة الفتن بعقل رصين وفعل محمود، فلا يتهاون في ثوابته ولا يتشدد فيما يحيد بالمجتمع عن وسطيته، ومن هنا يصبح رأيه محل تقدير، وحكمه نافذاً، وهذا يؤهله ليقود الإصلاح في مجتمعه، ويحفز الكثيرين لاتباعه والاقتداء به دون مغالاة أو تفريط، وشعاره أن الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أولى بها.
ساعٍ إلى الله
من أعظم ما يميز المصلح في المجتمع المسلم أنه يخلص نيته لله، فهو يسعى إلى الله في رحلته للإصلاح، لا يبتغي الثناء من أحد ولا يبحث عن الشهرة، بل يُعذر إلى الله بجميل صنيعه؛ امتثالاً لقوله تعالى: (وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (الأعراف: 164).
فغاية مبتغاه رضا الله عز وجل مهما واجه من صعاب وتحديات.
محب لأمته
لقد فضل الله أمة الإسلام على الأمم كافة لأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، يقول تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) (آل عمران: 110).
فالمسلم يسعى للإصلاح حباً في أمته وحرصاً عليهم، فهو لا يرضى لهم الخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة، لذا فهو يأمرهم قومه بالمعروف وينهاهم عن المنكر من دافع الحب والحرص، وهو يسعى جاهداً لينقذهم من النار ويأخذهم إلى طريق الصلاح.
مصلح في الأرض
المسلم الحق لا يرضى بالفساد في الأرض، ونفسه الأبية تريد الخير للبشرية جمعاء، وهذا هو دافعه للإصلاح.
يقول ابن باز في وصف المصلحين: المصلح هو الذي يتولى إصلاح الناس، ويتولى توجيههم وإرشادهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، والأخذ على يد السفيه ونحو ذلك، فهذا هو صالح ومصلح، يتقي الله في نفسه، ويجتهد في إصلاح غيره، فهذا صالح مصلح.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل»؛ فما أعظمها من رسالة نبوية خالدة تدعو المسلم لغرس الخير في أي وقت وفي كل مكان! يغرس الفسيلة ولو قامت القيامة، يغرسها ولو هلك البشر جميعاً، يغرسها في الأرض ليقينه أن دوره أن يغرس ويصلح، أما النتائج والثمار فتسير وفق مشيئة الله عز وجل لا سواه.
في زمن الفتن ما أحوجنا للمصلحين!
في زمن الفتن، تتعاظم الخطوب، وتضطرب الموازين، وتغيب الحقائق خلف الغمام، ويصبح دور المصلحين الدور الأعظم بين البشر، بهم تستقيم الدروب، وينصلح الاعوجاج.
هم الغرباء في زمن الفتن، كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأَ، فطُوبى للغرباء»، قيل: من هم يا رسول اللهِ؟ قال: «الذينَ يصلحونَ إذا فسد الناس».
لكنهم وفي كل عصر هم طوق النجاة الذين يحمي تلك الأمة من الغرق والهلاك، وهم من يبذلون الجهد والعمر والمال حسبة لله، متحملين في ذلك البلاء الشديد والخطوب الجسام، موقنين بوعد الله لهم بعدم الخوف أو الحزن في الحياة الدنيا وفي الآخرة، يقول تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأنعام: 48).
يقول الإمام أحمد بن حنبل، في وصف المصلحين: ما أحسن أثرهم على الناس! وما أقبح أثر الناس عليهم!
حقاً، فالمصلحون كمن يبذر الخير في الأرض الطيبة ليحصد الناس ويأكلوا من جميل صنيعهم، أما المفسدون فهم من يسير على الأرض ليقتلع نباتها الأخضر فيحرمون الناس من جميل الثمر، فما أحوجنا للمصلحين في زمن الفتن.
هند معوض