لم يعد مستغربا أن يتحول شهر أكتوبر إلى أيقونة جميلة تُسر بها النفوس وتطمئن بها القلوب لدى الكثير من الناس في العالم العربي لارتباطه ببعض الانتصارات العربية، مثلما تحول عند أعدائهم إلى كابوس مرعب يذكرهم ببعض هزائمهم وانتكاساتهم خصوصا ماحل بهم في “طـ.ـوفانأكتوبـ.ـر” العارم الذي جرفهم وأذلّهم وحطم غرورهم فتمنوا لو يُحذف هذا الشهر من رزنامة الشهور ! فهل يسجَّل السابع من أكتوبر 2024 في دفتر أمجاد العرب والمسلمين كأحد أعظم حدث تتواتر به الأخبار والأشعار لزمن طويل على غرار الفاتح نوفمبر 1954 في الجزائــر، و 06 أكتوبر 1973 في مصر وسوريا؟
فهذه الأيام الثلاثة -إن لم أكن مبالغا-هي التي دونت مفاخر وأمجاد عرب العصر الحديث وحفرت اسمهم وجددت كينونتهم كأمة عريقة ذات شأن تستحق الحياة فوق الأرض وتحت الشمس منذ أيامهم الزاخرة في عصور غابرة شرّقوا فيها وغرّبوا وكان لهم فيها أثر وحضور، ولولا هذه الشموع المضيئة المتلألئة لبات تاريخهم الحاضر قناديل منطفئة ومآسي متجددة وحسرات وزفرات بين نكبة وهزيمة ونكسة، غير أن أولئك الفتية النجباء من أبناء غـ.زة الذين آمنوا بربهم وصِدق انتمائهم ورضعوا حليب العزة والكرامة من صدور أمهاتهم ،استطاعوا -بطوفانهم المفاجئ وغير المسبوق -أن يحققوا شيئا خارقا يشبه المعجزة على الرغم من سنوات الحصار القاسي وحالة الخذلان المخزي من جانب أمة المليارين ومن محيطهم العربي القريب الذي انقسمت دُوله بين صامت وشامت،
ومن بدا متفرجا عاجزا بلا حول ولا طَوْل ،إذا ما استثنينا الجزائر التي وقفت منذ البداية في الجانب الصحيح من التاريخ انسجاما مع مبادئ ثورتها الظافرة فدعت لدعم كفاح أشقائها بما تستطيع من خلال الأدوار الديبلوماسية النشطة التي قامت بها في أروقة المنتظم الأممي ،وما يمكن أن تفعله لبلسمة جراحهم والأخذ بأيديهم في القادم من الأيام في ضوء التصريحات الجريئة للرئيس عبد المجيـــد تبــون ،وقد بدأنا نلمس امتنان قيادة المقاومة ورضاها عن موقف الجزائر وجميل فعلها من خلال رسالة التهنئة التي أرسلتها إلى الرئيس تبــون بمناسبة انتخابه لعهدة ثانية ،كما غطت الحملة الجارية لمقاطعة “ماكدونالد” وللشركات الداعمة للكيان بوصولها لـنسبة 95 % في السعودية ومصر مثلا، وعوضت عن ضعف التحرك الشعبي الداعم للمقاومة في الشوارع العربية،
دون أن نسقط من حسابنا الدور المقدّر جدا الذي تقوم به جبهات الإسناد و المشاغلة من لبنان واليمن والعراق التي اقتحمت عمق المحتل وأربكت خططه ودفعته إلى فعل المستحيل والخروج عن طوره وارتكاب الحماقات لفك الارتباط بين هذه الجبهات وجبهة غـ.ـزة كما حدث مع لبنان مثلا ،لأن هذا الإسناد تحول بمرور الوقت إلى حرب استنزاف موجعة ومرهقة للكيان وجيشه واقتصاده،
وفرضت عليه قواعد اشتباك جديدة على الرغم مما لحق بالفلسطينيين من تدمير وآلام تنوء بها الراسيات، ولكنها بنظر أصحاب القضية كلفة مبررة وواجبة الدفع وهم يقدمون هذه الكلفة عن رضا وطيب خاطر انطلاقا من قناعة المقَـا.ـومة وحلفائها أنهم أمام معركة طويلة وقاسية سيكتب النصر المبين فيها للأكثر صبرا والأطول نفسا.
كان صباح يوم السابع من أكتوبر 2023 صباحا عاديا في حياة الإسرائيليين باعتبار السبت يوم عطلة أسبوعية عندهم إضافة إلى كونه يصادف الاحتفال بأحد الأعياد المقدسة لدى اليهود “سمحات توراة أو بهجة التوراة” ،ولم يكن يجول بخلد سكان دولة الكيان وسكان مستوطنات “غلاف غزة” على وجه الخصوص ما يمكن أن ينغص عنهم صفاء يومهم ذاك ، ولم يخطر ببال أكثر المتشائمين منهم أن يتحول ذلك اليوم المشؤوم إلى كابوس مرعب حالك السواد في تاريخ هذا الكيان الغاصب وبداية لكتابة الفصل الأخير في عمره ،وإشارة دالة على قرب زواله النهائي من أرض فلسطين التي أخذها غصبا من أصحابها الحقيقيين.
في عملية خداع استراتيجي محكمة التخطيط والتنفيذ ! ودون أن تعلم أجهزة المخابرات أو تدوي صفارات الإنذار كما جرت العادة أُخذ الصـ.ـهايـ.ـنة وجيشهم على حين غِرة حيث باغتتهم وحدات كوماندوس تابعة لـ “كتائب القسـ.ـام” بهجوم مباغت كاسح ومنسق من البر والبحر والجو على نحو 20 مستوطنة داخل ما يسمى “الخط الأخضر” استهدفوا من خلاله عددا من ثكنات العدو العسكرية ومراكزه الأمنية والاستخباراتية الحساسة، وأسفر الهجوم في ساعاته الأولى عن قتل عدد من ضباط العدو وجنوده ومستوطنيه وأسر عدد آخر بينهم قائد فرقة غـ.ـزة نفسه، ووطئت أقدام الفلسطينيين رمزيا تراب أجدادهم
ورأوا شمسها واستنشقوا هواءها، واستطاعوا نقل المعركة لساحة عدوهم لأول مرة منذ نكبة فلسَـ.ـطن قبل أكثر من 76 سنة.
وما إن صحا جيش الكيان من تلك الضربة الموجعة التي أفقدته صوابه وتوازنه حتى انطلق مثل الثور الهائج بلا عقل وبلا عقال دافعا بأفضل ما لديه من أسلحة وجيوش وآليات لغزو قطاع غـ.ـزة مشعلا حرب إبـ.ـادة طاحنة على البشر والحجر ثأرا للمهانة والعار الذين لحقا به يوم السابع من أكتوبر “شهر الانتصارات العربية”، وهبت أمريكا ودول الغرب بغضها وغضيضها تدعم العدو وتسنده بالمال والسلاح والموقف السياسي بادعاء باطل مفاده أن الكيان هو الطرف المعتدى عليه و”من حقه الدفاع عن نفسه !!” وقد وضع العدو -في البداية- لهذه الحرب ثلاثة أهداف أساسية( تدمير قدرات حماس العسكرية والإدارية-تحرير الأسرى بالقوة-ضمان ألا تقوم حماس بما قامت به مستقبلا..)
غير أنه لم يحقق من أهدافه تلك أي هدف على الرغم من مرور سنة كاملة على هذه الحرب المدمرة على قطاع صغير محاصر مكتظ بالسكان، وكل ما استطاع الكيان إنجازه في هذه المقتلة هو إبـ.ـادة جماعية ضد العزّل من أطفال غزة ونسائها وشيوخها سار فيها على نهج أسلافه من عصابات الاحتلال:(هاغاناه، إرغون
بقلــم :د.عبد الحميد عباسي